منوعات

حكاية عاشق سيقان النساء… بالكولونات حصرًا/ عمار المأمون

أوقفت الشرطة الفرنسية العام الماضي أحد مدراء قسم الموارد البشرية في وزارة الثقافة. سبب التوقيف أن هذا المجهول كان يعرض على المتقدّمات للعمل أثناء المقابلة في مكتبه، شراباً ترحيبياً، كالقهوة، الشاي أو الماء، كأي شخص يحافظ على اللياقة بينه وبين من يقابلهن، لكن الإشكالية أنه كان يضع في المشروب مدرّات للبول، ويصرّ على من يقابلهن أن يبقين أمامه حتى يبلن على أنفسهن.

اكتشفت الشرطة أنه كان يقوم بهذه الممارسة على مدار عشر سنوات، ولديه ملف أكسيل-Excel تفصيلي، يخزّن فيه كل واحدة من هذه التجارب، اسم المرأة، عمرها، متى شربت من الكأس، متى تبولت وماذا كانت ترتدي، وكأننا أمام أرشيف للتبول القسري في المكاتب.

لحظة اكتشافه كانت حين مقابلته لإحدى نواب قائد الشرطة في باريس، والتي وقعت في فخه، ولاحظت أنه كان يصوّر ساقيها ليتأمّل البول ينساب عليهما، ما يعني أنه يمتلك أيضاً أرشيفاً لصور نساء تبوّلن على أنفسهن، أرشيف بناه بين عامي 2009 و2018، لأكثر من 200 امرأة وقعت في ذات الفخ.

يختزل الفيتيشي، كحالة المجهول السابق، العالم في عدة مكونات، إما يراقب أو يتدخل لتكوين هذه المكونات وضبط أسلوب ترتيبها، كي تتطابق مع متخيله عن موضوع اللذة. ينفي كل ما يحيط بما يرغب ويكتفي بما يثير مخيّلته. في حالة الموظف السابق كان الأمر هو التبول اللاإرادي، وفي معرض يقام حالياً في باريس بعنوان “الفيتيشي: تشريح أسطورة”، نتعرّف على مجهول آخر قضى السنوات العشر، بين عامي 1996 و2006، بالتقاط صور سيقان نساء يرتدين الكولونات حصراً.

أول ما نقرأه في التعريف عن المعرض هو الاقتباس التالي من كارل كروس: “لا يوجد كائن أشد تعاسة تحت الشمس، من فيتيشي يتوق لحذاء امرأة لكن عليه أن يرضى بها بأكملها”، وكأن العالم معطوب والرغبات فيه محددة مسبقاً، ومأساة الفيتيشي هي سعيه لخلق نافذة لتكوين رغباته، مع تنازلات يفرضها عليه تصميم العالم، أو ربما هو المنصاع كليّاً لشكل العالم الحالي، ويلتقط منه ذاك الذي نخجل من التصريح به.

تحرّك فينا مخيلة الفيتيشي الرعب، كونه يقتبس من العالم وما حوله بصورة مختلفة عمّا نألفه. هويته السريّة تبق محطّ جدل، خصوصاً أن “هؤلاء” يمارسون أفعالهم من التلصص حتى المشاركة في صناعة رغباتهم، تحت قناع من “العادية المفرطة”، أشبه بالمستمني النرجسي الذي متعته في استمنائه ذاته وموضوعته التي تتطابق مع مخيلته، بغض النظر عن موقفها. ونميل هنا نحو التأويل البورنوغرافي لأنه الأشد تداولاً، ناهيك عن انتهاك الفيتيشي الذكر لخصوصية الآخر، وخصوصاً النساء، بأسلوب يتشابه مع الاعتداء الجنسي.

لكن، المثير للاهتمام في حالة المصوّر المجهول، أن الصور نفسها هي موضوعة رغبته، لا من يلتقط صورهن، هو يترك للسيقان حرية الحركة والتصرف في الفضاءات التي تظهر ضمنها دون أن يتدخل، يبحث فقط عن اللقطة واللحظة المناسبة لاحتجازها. هو المحدّق الأشد خطورة، كون تحديقته خفيّة، ولا يفترض أو يحاول الإشارة إلى أي سلوك يريده، موضوع رغبته يتصرف بحريته دون أي تدخل، وكأنه كاميرا مراقبة لا نعلم انها موجودة، ولا نعلم ما الذي “يثيرها”، الكابوس المتكرر لدى الجميع الآن بسبب التكنولوجيا الحديثة.

هل هذه الصور فنّ؟

يتساءل القائمون على المعرض عن “فنية” هذه الصور، لا فقط لاختلاف أسلوب التقاطها ودقتها، بل بسبب ترتيبها ككل ضمن المعرض، فما الذي تمثله صور سيقان من الشارع والتلفاز والأفيشات؟ خصوصاً أن “المجهول” يبحث عن نسخه الخاصة، لا تلك المتوافرة، فالصور كلها ذات أبعاد موحّدة “10X15 سم”.

نحن نراها كأجزاء ونفتش عن حكايات كل منها، لكنها بلا أسماء، وكأن الفيتيشي يراها ككل يعرف هو ترتيبه فقط، أما الترتيب الزمني في المعرض فأشبه بترتيب أرشيفي، لكن في عقل الفيتيشي هناك تخيل لشكل أكبر ربما، كائن من سيقان ترتدي الكولونات لا نعلم شكله. أو ربما، الفيتيشي أشبه بمدمن على حبوب لا تهمه تكويناتها، بل يهمه فقط أن يبتلعها، أو كمن يكتب أسطورة ذات عناصر لامنطقية، يفهمها هو فقط.

سؤال “الفنّ” يرتبط بنظام المعارف الفيتشية، ذاك الغامض والذي يختلف عن الجماليات التقليدية ويثير الرعب حين يُستعرض، لأن “الذوق” وأساس تقييم وتعريف الفن ضمنه، يتناقض مع الأخلاقيات القائمة. مثلاً، فيديوهات الكومبيولشين البورنوغرافية نموذج لهذا الأمر، بعضها تقليدي، وبعضها عبارة عن 17 عشر دقيقة لرجال يقذفون بأوجه نساء، أو 22 دقيقة لأكثر من 200 امرأة يركلن رجلاً في خصيتيه. كل لقطة من هذه السلاسل لا معنى لها لوحدها، لكن تجاورها وتكرارها وتدفقها هو ما يخلق المتعة المشابهة للاستمناء الذكوري، حركة دورية ومتكررة لذات الفعل حد القذف.

مرة أخرى نربط الموضوع الفني بالبورنوغرافي، لأن النماذج من هذا النوع تظهر بوضوح في البورنوغرافيا غير التقليدية، لكن بصورة أشدّ التواء. الكثير من صور القتلى والمعذبين والجثث تظهر في أعماق صحاري البورنوغرافيا وترتب كسلاسل للمتعة. بعضها، ولسوء الحظ، يشابه صور الأدلة القضائية في ترتيبها واستعراضها. نحن أمام جماليات للموت قد تصل حد الإثارة الجنسية، وهنا الملفت للانتباه في الحكايات السابقة، هناك نظام دقيق في الترتيب وتحديد موضوع الرغبة الفيتيشية لخلق “الكلّ” المثير للذّة.

هذا “الكل” يرتبط بممارسة يومية في حكاية الفيتيشي المهووس بالسيقان، هناك جهد يبذل للتصوير والتصنيف والترتيب مشابه للجهد المبذول في البحث العلمي أو الفني، لكن الاختلاف أن لا عدد كافياً من “الأجزاء”، لأن مجموعها إن انتهى لا يصنع “كلّاً” مثالياً.

نحن أمام كولاج لا متناه من السيقان بالكولونات، وهنا الاختلاف عن المخيلة الذكورية التقليدية التي لا تمانع التطابق في موضوعات الرغبة، لأن الجزء هو الأهم، في حين أن المخيلة الفيتيشيّة ترى في الأجزاء مجرد عناصر، لابد من جمعها وترتيبها لأجل إنجاز الكل الذي يختلف عن الشكل التقليدي للحم، سواء كان ذكراً أو أنثى.

نطرح هذه الأسئلة في محاولة لضبط الاختلاف بين الممارسة البورنوغرافية وتلك الفيتيشيّة، إذ نفترض دوماً أن أحدهما نتيجة للآخر، خصوصاً أننا أمام أجساد نساء والمجاهيل ذكور، أي أن التحديق في موضوع الرغبة أو بناءه على أساس المتخيل المسبق سينتهي بسائل ما، بلذة وإنزال.

يمكن القول أيضاً إن الجامع الفيتيشي يرى في موضوعاته عناصر جمالية يسعى لتكوينها لذة مختلفة عن تلك الجنسية التقليدية، أشبه بمن يعمل على صناعة مكتبة أو طاولة لمتعة صناعتها، لموضوعات لا تدرك ولم توافق على أن تكون جزءاً من جهد فيتيشي أو حتى فنّي.

الأمر يتشابه مع عمل التجهيز الذي أنجزه كريستيان بولتانسكي بعنوان “أرشيف الموتى السويسريين”، إذ قص صور الموتى في المصانع من صفحة الوفيات، واستعرضها على صناديق للتذكير بهم، مع الحفاظ على حكاياتهم الشخصية، وهنا الاختلاف عن المعرض السابق. الموضوعة تحافظ على فرادتها وحكايتها بالرغم من ترتيبها بشكل محدد، في حين في المخيلة الفيتيشية يرتبط الترتيب بالحكاية التي يريدها الجامع أو المصور، لا السياق الذي ظهرت فيه الموضوعة، وفي حالتنا هي السيقان التي ترتدي النايلون.

تحديقة الذكورة “المُقرفة”

المثير للحنق من وجهة نظر نسوية، وبالرغم كل الحذلقات السابقة، أننا أمام رجل يترصّد النساء ويلتقط صور سيقانهن، أو على الأقل، كي لا نتهمه بالترصّد، ينتهز أي فرصة متاحة لالتقاط صورة. هو خطر ينتهك اليومي ويتخفى بين الجموع، لا يمكن تحديد هويته أو تفاديه، وهي الإشكالية الأهم التي تمثلها التحديقة الذكورية. جسد المرأة بكل حالاته موضوع رغبة، لا مكان لا يتشهّى فيه لحم المرأة، أو لا يكون محطاً للتحديق، صحيح أن الصور تخاطب تاريخ فوتوغرافيا الـ Pin up والإعلانات، لكن عملية التقاطها لم تكن برضا من تم اختيارهن كـ “موضوعات” للصور، ناهيك عن سيقانهن.

اخترنا كلمة “مقرفة” لنشير إلى الأثر التعاطفي للقرف، ذاك الذي ينتقل ويتولد لدينا بمجرد أن نشاهد الصور، كوننا نخاف أن يكون الواحد منا “ضحية” لفيتيشي خفي، ينتهك اللحم عبر الصورة، دون أن نتمكن من تحديد هويته، خصوصاً أن هناك جهداً مبذولاً لالتقاط الصور وتجميعها. والسؤال هنا هو عن الحد الذي على أساسه يمكن أن نعتبر ما نراه “فنّاً”، ما هي العناصر التي يمكن أن تحول ما سبق إلى فن دون أن نشعر بالخطر والخوف، لا من المنتج الفني نفسه، بل من أولئك المختفين الذين يحدقون ويكوّنون أرشيفات دون أن نعلم عنها شيئاً؟

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى